فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} أي رزقهم الذي يُعدّ لهم، كالنزل الذي يعدّ للأضياف تكرمةً لهم، وفيه تهكُّم؛ كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وكقول أبي السّعد الضَّبيّ:
وكنا إذا الْجَبَّارُ بالجيشِ ضَافَنَا ** جعلنا القَنَا والمرهفاتِ له نُزْلاَ

وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو {هَذَا نُزْلُهُمْ} بإسكان الزاي؛ وقد مضى في آخر (آل عمران) القول فيه.
{يَوْمَ الدين} يوم الجزاء، يعني في جهنم.
قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} أي فهلاّ تصدّقون بالبعث؟ لأن الإعادة كالابتداء.
وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلاّ تصدّقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وأصحاب الشمال}.
شروعٌ في تفصيلِ أحوالِهم التي أُشير عند التنويعِ إلى هولِها وفظاعتِها بعدَ تفصيلِ حسنِ حالِ أصحابِ اليمينِ. والكلامُ في قوله تعالى: {مَا أصحاب الشمال} عينُ ما فُصِّلَ في نظيرِه وكذا في قوله تعالى: {فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} والسَّمومُ حرُّ نارٍ ينفذُ في المسامِّ والحميمُ المُتناهِي في الحرارةِ. {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} منْ دُخانٍ أسودَ بهيمٍ {لاَّ بَارِدٍ} كسائرِ الظلالِ {وَلاَ كَرِيمٍ} فيه خير ما في الجملة سُمِّيَ ذلكَ ظلًا ثم نُفى عنه وصفاهُ البردُ والكرمُ الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيقِ أنه ليس بظلَ وقرئ {لا باردٌ ولا كريمٌ} بالرفعِ أي لا هُو باردٌ ولا كريمٌ. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} تعليلٌ لابتلائِهم بما ذُكِرَ من العذابِ أي إنَّهم كانُوا قبلَ ما ذُكِرَ من سُوءِ العذابِ في الدُّنيا منعّمينَ بأنواعِ النعمِ من المآكلِ والمشاربِ والمساكنِ الطيبةِ والمقاماتِ الكريمةِ منهمكينَ في الشهواتِ فلا جرمَ عُذبُوا بنقائضِها.
{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي الذنبِ العظيمِ الذي هو الشركُ ومنه قولهم بلغَ الغلامُ الحنثَ أي الحُلُمَ وقتَ المؤاخذةِ بالذنبِ {وَكَانُواْ يِقولونَ} لغايةِ عُتوِّهم وعنادِهم {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما} أي كانَ بعضُ أجزائِنا من اللحمِ والجلدِ ترابًا وبعضُها عظامًا نخرةً وتقديمُ الترابِ لعراقتهِ في الاستبعادِ وانقلابه من الأجزاء البادية، وإذا متمحّضة للظرفي والعامل فيها ما دل عليه، قوله تعالى: {أئنا لمبعثونَ} لا نفسه لأن مَا بعد أنَّ واللامِ والهمزةِ لا يعملُ فيما قبلَها وهو نُبعثُ وهو المرجعُ للإنكارِ، وتقييدُه بالوقتِ المذكورِ ليس لتخصيصِ إنكارِه به فإنَّهم منكرون للإحياءِ بعد الموتِ وإن كان البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له بالكليةِ، وتكريرُ الهمزةِ لتأكيدِ النكيرِ وتحليةُ الجملةِ بأنَّ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التأكيدِ كما عسى يتوهمُ من ظاهرِ النظمِ فإن تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثلِ قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهورُ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتينَ في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم ترابًا وعظامًا بل كونِهم بعرضيةِ ذلك واستعدادِهم ومرجعُه إلى إنكارِ البعثِ بعد تلك الحالةِ، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيدَ عليه وتكريرُ الهمزةِ فِي قوله تعالى: {أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} لتأكيد النكيرِ والواوُ للعطفِ على المستكنِّ في لمبعوثونَ وحسُن ذلك الفصلُ بالهمزة يعنون أنَّ بعثَ آبائهم الأولينَ أبعدُ من الوقوعِ وقرئ {أو آباؤنا} {قُلْ} ردًا لإنكارِهم وتحقيقًا للحقِّ {إِنَّ الأولين والأخرين} من الأممِ الذين منْ جُملتهم أنتُم وآباؤكم وفي تقديم الأولينَ مبالغةٌ في الردِّ حيث كان إنكارُهم لبعث آبائِهم أشدَّ من إنكارِهم لبعثهم مع مراعاةِ الترتيبِ الوجوديِّ {لَمَجْمُوعُونَ} بعد البعثِ وقرئ {لمُجمَعون} {إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وُقتت به الدُّنيا من يومٍ معلومٍ والإضافةُ بمعنى منْ كخاتم فضةٍ {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عطفٌ على أن الأولين داخلٌ تحت القول وثم للتراخِي زمانًا أو رتبةً {المكذبون} أي بالبعث والخطابُ لأهلِ مكةَ وأضرابِهم.
{لاَكِلُونَ} بعد البعثِ والجمعِ ودخولِ جهنَم {مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ} من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانيةُ لبيان الشجرِ وتفسيرِه أي مبتدئون الأكلَ من شجرٍ هو زقومٌ وقيل: من الثانيةُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو وصفٌ لشجرٍ أي كائنٍ من زقومٍ {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي بطونكُم من شدةِ الجوع {فشاربون عَلَيْهِ} عَقيبَ ذلك بلا ريثٍ {مِنَ الحميم} أي الماءِ الحارِّ في الغايةِ وتأنيثُ ضميرِ الشجرِ أولًا وتذكيرُه ثانيًا باعتبارِ المعنى واللفظِ وقرئ {من شجرةٍ} فضمير {عليه} حينئذٍ للزقومِ وقيل: للأكلِ وقوله تعالى: {فشاربون شُرْبَ الهيم} كالتفسيرِ لما قبله على طريقة قوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} أي لا يكونُ شربُكم شربًا معتادًا بل يكونُ مثلَ شربِ الهيمِ وهي الإبلُ التي بها الهيامُ وهو داءٌ يصببها فتشربُ ولا تروى جمعُ أهيمَ وهيماءَ وقيلَ: الهِيمُ الرمالُ على أنه جمعُ الهَيَام بفتحِ الهاءِ وهو الرملُ الذي لا يتماسكُ جُمعَ على فُعُلٍ كسحابٍ وسُحُبٍ ثم حفف وفُعل به ما فُعل بجمعِ أبيضَ والمعنى أنه يسلطُ عليهم من الجوعِ والتهابِ النارِ في أحشائِهم ما يَضطرّهم إلى أكلِ الزقزمِ الذي هو كالمهلِ فإذا ملأوا منه بطونَهم وهو في غايةِ الحرارةِ والمرارِة سلط عليهم من العطشِ ما يضطرهم إلى شربِ الحميمِ الذي يقطعُ أمعاءَهم فيشربونه شربَ الهيمِ وقرئ {شَربَ الهيمِ} بالفتحِ وهو أيضًا مصدرٌ وقرىء بالكسرِ على أنه اسمُ المشروبِ. {هذا} الذي ذُكرَ من أنواعِ العذابِ {نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} أي يومَ الجزاءِ فإذا كان ذلك نزلَهُم وهو ما يعد للنازلِ مما حضر فما ظنُّك بما لهم بعدما استقرَّ لهم القرار واطمأنتْ بهم الدارُ في النارِ وفيه من التهكمِ بهم ما لا يَخفْى وقرئ {نُزْلهم} بسكونِ الزاي تخفيفًا والجملةُ مسوقةٌ من جهته تعالى بطريقِ الفذلكةِ مقررةٌ لمضونِ الكلامِ المقن غيرُ داخلةٍ تحتَ القول. وقوله تعالى: {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إلى الكفرةِ بطريقِ الإلزامِ والتبكيتِ. والفاءُ لترتيبِ التحضيضِ على ما قبلَها أي فهلَّا تصدقونَ بالخلقِ فإن ما لا يحققه العملُ ولا يساعده بل ينبىءُ عن خلافه ليس من التصديق في شيءٍ وقيل: باللبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدرَ عليه قدرَ على الإعادةِ حتمًا والأولُ هو الوجهُ كما ستحيطُ به خُبْرًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)}.
لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال السابقين، وما أعدّه لهم من النعيم المقيم، ذكر أحوال أصحاب اليمين، فقال: {وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين} قد قدّمنا وجه إعراب هذا الكلام، وما في هذه الجملة الاستفهامية من التفخيم والتعظيم، وهي خبر المبتدأ، وهو أصحاب اليمن، وقوله: {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خبر ثان، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم في سدر مخضود، والسدر: نوع من الشجر، والمخضود: الذي خضد شوكه، أي: قطع فلا شوك فيه.
قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ** فيها الكواعب سدرها مخضود

وقال الضحاك، ومجاهد، ومقاتل بن حيان: إن السدر المخضود: الموقر حملًا {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قال أكثر المفسرين: إن الطلح في الآية هو شجر الموز.
وقال جماعة: ليس هو شجر الموز، ولكنه الطلح المعروف وهو أعظم أشجار العرب.
قال الفراء، وأبو عبيدة: هو شجر عظام لها شوك.
قال الزجاج: الطلح هو أمّ غيلان، ولها نور طيب، فخوطبوا ووعدوا ما يحبون، إلاّ أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
قال: ويجوز أن يكون في الجنة، وقد أزيل شوكه.
قال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل، والمنضود: المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ليس له سوق بارزة.
قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيد ثمر كله، كلما أخذت ثمرة عاد مكانها أحسن منها {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} أي: دائم باق لا يزول، ولا تنسخه الشمس.
قال أبو عبيدة: والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع: ممدود، ومنه قوله: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان؛ 45] والجنة كلها ضلّ لا شمس معه.
قال الربيع بن أنس: يعني ظلّ العرش، ومن استعمال العرب للممدود في الدائم الذي لا ينقطع قول لبيد:
غلب العزاء وكان غير مغلب ** دهر طويل دائم ممدود

{وَمَاء مَّسْكُوبٍ} أي: منصبّ يجري بالليل والنهار أينما شاءوا لا ينقطع عنهم، فهو مسكوب يسكبه الله في مجاريه، وأصل السكب.
الصبّ، يقال: سكبه سكبًا، أي: صبه {وفاكهة كَثِيرَةٍ} أي: ألوان متنوعة متكثرة {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا في بعض الأوقات {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أي: لا تمتنع على من أرادها في أي وقت على أيّ صفة، بل هي معدّة لمن أرادها لا يحول بينه وبينها حائل.
قال ابن قتيبة: يعني: أنها غير محظورة عليها كما يحظر على بساتين الدنيا.
{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي: مرفوع بعضها فوق بعض، أو مرفوعة على الأسرّة.
وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة، وارتفاعها كونها على الأرائك، أو كونها مرتفعات الأقدار في الحسن والكمال.
{إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء} أي: خلقناهنّ خلقًا جديدًا من غير توالد، وقيل: المراد نساء بني آدم.
والمعنى: أن الله سبحانه أعادهنّ بعد الموت إلى حال الشباب، والنساء وإن لم يتقدّم لهنّ ذكر لكنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، وأما على قول من قال: إن الفرش المرفوعة عين النساء، فمرجع الضمير ظاهر.
{فجعلناهن أبكارا} {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 56] {عُرُبًا أَتْرَابًا} العرب جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها.
قال المبرد: هي العاشقة لزوجها، ومنه قول لبيد:
وفي الخباء عروب غير فاحشة ** ريا الروادف يعشي ضوؤها البصرا

وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام.
قرأ الجمهور بضم العين والراء.
وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء، وهما لغتان في جمع فعول، والأتراب: هنّ اللواتي على ميلاد واحد، وسنّ واحد.
وقال مجاهد: أترابًا أمثالًا وأشكالًا، وقال السديّ: أترابًا في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد.
قوله: {لأصحاب اليمين} متعلق بـ: {أنشأناهنّ}، أو بجعلنا، أو بـ: {أترابًا}، والمعنى: أن الله أنشأهنّ لأجلهم، أو خلقهنّ لأجلهم، أو هنّ مساويات لأصحاب اليمين في السنّ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هنّ لأصحاب اليمين {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين} هذا راجع إلى قوله: {وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين} أي: هم ثلة من الأوّلين، وثلة من الآخرين، وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر السابقين، والمعنى: أنهم جماعة، أو أمة، أو فرقة، أو قطعة من الأوّلين، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وجماعة، أو أمة، أو فرقة، أو قطعة من الآخرين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك: {ثلة من الأوّلين} يعني: من سابقي هذه الأمة، {وثلة من الآخرين} من هذه الأمة من آخرها.
ثم لما فرغ سبحانه مما أعدّه لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال، وما أعدّه لهم، فقال: {وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال} الكلام في إعراب هذا وما فيه من التفخيم، كما سبق في أصحاب اليمين، وقوله: {فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إما خبر ثان لأصحاب الشمال، أو خبر مبتدأ محذوف، والسموم: حرّ النار، والحميم: الماء الحارّ الشديد الحرارة، وقد سبق بيان معناه.